حين يصبح الجسد جسراً للحياة: التبرع بالأعضاء في تونس بين الوعي والخوف

✍️ أشرف المذيوب – الطريق إلى الخلاص
في ظل الأزمات الصحية والاجتماعية المتواصلة التي تمر بها تونس، يبرز التبرع بالأعضاء كقضية إنسانية عميقة لا تزال رهينة التردد والخوف، رغم ما تمثله من أمل حقيقي لآلاف المرضى.
في 30 جويلية 2025، سجلت تونس واحدة من أكثر اللحظات إنسانية حين قررت عائلة متوفى دماغيًا التبرع بأعضائه، ما مكّن من إنقاذ حياة أربعة أشخاص كانوا على قوائم الانتظار في مستشفيات الرابطة، شارل نيكول، المنجي سليم، وفطومة بورقيبة. حدث نادر أضاء مشهدًا طبيًا راقيًا، حيث عملت الفرق الطبية في صمت وتفانٍ، لا من أجل الشهرة، بل من أجل إنقاذ نبض مهدد بالانطفاء.
حاجز نفسي وثقافي أمام التبرع
ورغم مشروعية التبرع قانونيًا ودينيًا، لا يزال الموضوع يصطدم بعقبات ثقافية ونفسية متجذّرة. فالعديد من المواطنين يخلطون بين الموت الدماغي والغيبوبة، ويخشون تشويه الجثمان أو يراودهم شك في النوايا الطبية. كما أن غياب الثقة في المنظومة الصحية وندرة التوعية يزيدان من حدة التردد.
وفي هذا السياق، يؤكد خبراء أن الرفض الشعبي لا ينبع من رفض للخير، بقدر ما هو نتيجة غياب تواصل صريح ومستمر مع المواطنين، يعيد تعريف معنى التبرع باعتباره عملاً نبيلاً لا انتهاكًا.
الخطاب الديني: بين التباس الفتوى وغياب التبليغ
رغم أن هيئات دينية معتبرة كـدار الإفتاء التونسية والأزهر قد أجازت التبرع بالأعضاء، لا تزال فتاوى مشوشة تنتشر في الفضاء العام، تصف الجسد بـ”الملكية الإلهية” وتُحذر من “العبث بالميت”، دون التوازن بين كرامة الميت وحق المريض في الحياة.
وتطرح هذه الإشكالية الحاجة إلى خطاب ديني واضح ومُبادر، يخرج من الفتاوى النظرية إلى الميدان، عبر المساجد والمدارس والإعلام، ويذكّر الناس بأن إنقاذ النفس البشرية من أسمى القيم التي دعت إليها الشريعة:
“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا” – [المائدة: 32].
نماذج عالمية تلهم… وأرضية تشريعية قائمة
في دول مثل فرنسا، إسبانيا، تركيا، أصبح التبرع بالأعضاء جزءًا من الهوية المدنية. وتُدرّس قيمه في المدارس، ويُظهر الإعلام المتبرعين كأبطال، فيما تفترض القوانين أنهم متبرعون تلقائيًا إلا إذا صرحوا بعكس ذلك.
أما في تونس، فالقانون موجود، والمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء قائم، لكن التفعيل يظل محدودًا بسبب غياب الإرادة السياسية والحملات المجتمعية الفعالة.
مبادرة وطنية: أعوان الدولة قدوة في الحياة… وبعدها
من بين المقترحات المطروحة، دعوة أعوان الصحة، الحماية، الأمن، والجيش، لتسجيل أسمائهم علنًا في قائمة المتبرعين بالأعضاء، لتُصبح قائمة شرف وطنية تعزز الثقة المجتمعية، وتؤسس لثقافة يعتبر فيها التبرع بالأعضاء امتدادًا للواجب الوطني، لا مجرد خيار فردي.
حملة وطنية… عنوانها الحياة
ولتثبيت هذه الثقافة، يقترح مختصون إطلاق حملة وطنية تحت شعار:
“من جسدي حياة لأجلك”،
بمشاركة وزارات الصحة، الشؤون الدينية، التربية، الدفاع، إلى جانب الإعلام العمومي والخاص، وتهدف إلى:
- تنظيم يوم وطني للتبرع بالأعضاء
- تقديم بطاقة شرف للمتبرعين
- عرض قصص واقعية لعائلات تبرعت
- نشر فتاوى دينية مبسطة
- إطلاق منصة إلكترونية رسمية للتسجيل
أجساد تغيب… وقلوب تبقى تنبض
ليس أعظم من أن يختار الإنسان، في لحظة الوداع، أن يهب ما تبقى من جسده لإنقاذ الآخرين.
وليس أبلغ من أن تبتسم أمٌّ وسط الحزن، وتقول:
“ابني مات، لكنه مازال حيًا في أربعة أجساد.”
التبرع بالأعضاء في تونس ليس معجزة، بل فعل إنساني ممكن، يحتاج فقط إلى ثقة، ووعي، وشجاعة القرار.
فلنكن نحن البداية.