اقتصاد

حبيبة النصراوي بن مراد: تونس لا تنهار… لكنها تتعب اقتصادياً

بين ثروة الفسفاط وضغط الديون... تونس تبحث عن معادلة النهوض

في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات الاقتصادية وتتقاطع فيه الخطابات بين التشاؤم والإنكار، تطلّ الدكتورة حبيبة النصراوي بن مراد، أستاذة العلوم الاقتصادية والباحثة الجامعية، لتقدّم قراءة واقعية وجريئة للوضع الاقتصادي في تونس، بين ما هو مأزوم فعلاً، وما يُراد له أن يبدو كذلك.
حديثها، الذي اتّسم بالعمق والوضوح، لم يكن مجرّد تحليل أكاديمي جامد، بل صرخة اقتصادية عاقلة تدعو إلى تجاوز منطق التهويل والعودة إلى منطق الإصلاح والإنتاج.


 تصنيفات مالية في حاجة إلى قراءة نقدية

استهلّت الدكتورة النصراوي حديثها بتفنيد بعض الأحكام السطحية التي تروّجها وكالات التصنيف الدولية حول تونس.
ففي نظرها، وكالتا فيتش وموديز وإن عدّلتا تقييمهما للوضع المالي التونسي، فإنهما اعترفتا ضمنياً بخطأ تقديرهما السابق، بعد أن تبيّن لهما أنّ السوق التونسية لم تشهد انهياراً في التداول أو توقّفاً في البيع كما صُوِّر، بل كانت تمرّ بمرحلة “شدّ مالي” طبيعي في ظلّ غياب الاستقرار السياسي وتأخّر الإصلاحات.

وتضيف:

“الانكماش الذي تشهده تونس لا يعني السقوط، بل هو نتيجة مباشرة لتراكم سنوات من السياسات المالية المتردّدة. نحن في وضع ضغط لا في وضع انهيار”.


 الفسفاط: ثروة معلّقة على رفّ الإهمال

حين تتحدث الدكتورة عن الفسفاط، يتغيّر نبر صوتها. فالموضوع بالنسبة إليها ليس مجرّد رقم في جدول صادرات، بل قصة وطنٍ نسي إحدى أعمدته الأساسية.
تقول بنبرة أسف ممزوجة بالأمل:

“منذ سنة 2011 إلى 2022، تراجع إنتاج الفسفاط في تونس بنسبة 80%. تخيّلوا حجم الخسارة! كنا من أبرز المنافسين للمغرب عالمياً، اليوم أصبحنا في ذيل القائمة.”

تونس، التي كانت تنتج قرابة 8 إلى 10 ملايين طنّ سنوياً، صارت بالكاد تلامس نصف ذلك الرقم. والمفارقة أنّ أسعار الفسفاط في السوق العالمية ارتفعت إلى حدود 500 دولار للطن الواحد، أي أنّ تونس فقدت فرصة تاريخية لزيادة مواردها.
وتضيف:

“المغرب اليوم يسيطر على قرابة 70% من السوق العالمية للفسفاط. في المقابل، نحن نملك احتياطات تقدَّر بمئات السنين من الإنتاج، لكن دون رؤية ولا قرار سياسي واضح. الفسفاط ليس ماضياً، هو مستقبل تونس إن عرفت كيف تُعيد تشغيله بذكاء.”


 بين الصندوق الدولي وواقع المالية العمومية

تتطرّق الدكتورة النصراوي إلى العلاقة المعقّدة بين تونس وصندوق النقد الدولي، معتبرة أنّ الصندوق لا يمنح الحلول السحرية، لكنه يفتح الباب للتعامل مع الأسواق الدولية.
وتوضح أنّ القرض الأخير البالغ 1.9 مليار دولار ليس هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لاستعادة الثقة.

“صحيح أننا مثقلون بالديون، لكننا مازلنا نسدّد التزاماتنا في آجالها. لم نتخلّف يوماً عن الدفع، وهذا دليل على أنّ تونس تملك مؤسسات قادرة على التسيير، رغم محدودية الإمكانيات.”

وترى النصراوي أنّ مشكلة تونس ليست في المديونية بقدر ما هي في ضعف الاستثمار المنتج. فالأموال تُقترض لتغطية الأجور والنفقات، لا لبناء المصانع أو خلق الثروة، وهو ما يجعل الاقتصاد دائراً في حلقة مفرغة.


 الادخار والاستثمار: فجوة هيكلية تهدّد النمو

بلغة الأرقام، توضح الدكتورة أنّ نسبة الادخار الوطني كانت في حدود 20% من الناتج المحلي قبل 2011، أما اليوم فهي لا تتجاوز 16%.
وفي المقابل، نسبة الاستثمار تدور في نفس المعدّل، مما يخلق فجوة تمويل هيكلية تجعل تونس تعتمد على الخارج لتمويل مشاريعها.

“حين ينخفض الادخار، لا يمكن أن يرتفع الاستثمار. المواطن فقد قدرته على الادخار لأن قدرته الشرائية تآكلت، والمؤسسة فقدت حافزها للاستثمار لأن المناخ الاقتصادي غير مستقر. هذه هي الحلقة الأخطر.”

وتربط النصراوي هذه المعادلة مباشرة بسوق الشغل، إذ تشير إلى أنّ عدد مواطن الشغل الجديدة لا يتجاوز 53 ألفاً سنوياً، في حين أنّ حاجيات البلاد لا تقل عن 100 ألف موطن شغل جديد سنوياً لمواكبة الوافدين الجدد إلى سوق العمل.


 اختلال ميزان التجارة… وضرورة مراجعة الاتفاقيات

واحدة من النقاط التي شددت عليها الدكتورة هي العجز التجاري المزمن.
تقول بالأرقام:

“عام 2022 سجّلنا عجزاً قدره 25 ألف مليار، أي ما يعادل أكثر من 6 مليارات دينار شهرياً. نحن نستهلك أكثر بكثير مما ننتج، ونستورد ما يمكن أن نصنعه محلياً.”

وتعتبر أنّ السبب الرئيسي لهذا العجز هو الانفتاح غير المتوازن على بعض الأسواق، مثل تركيا والصين، في حين أنّ الصادرات التونسية نحو إفريقيا وآسيا مازالت محدودة جداً (10.6% و5.7% فقط على التوالي).

“علينا إعادة النظر في اتفاقياتنا التجارية. بعض الشركاء يربحون من السوق التونسية أكثر مما نربح نحن. الاقتصاد ليس انفتاحاً أعمى، بل توازن مصالح.”


 البورصة والتمويل: اقتصاد تحت رحمة البنوك

تنتقد الدكتورة النصراوي المنظومة البنكية الحالية، معتبرة أنّها أصبحت عبئاً على تمويل الاقتصاد بدل أن تكون رافعة له.

“98% من تمويل الاقتصاد يأتي من البنوك، بينما لا تساهم السوق المالية بأكثر من 2 إلى 5%. لدينا أكثر من 800 ألف مؤسسة اقتصادية، منها فقط 82 مدرجة في البورصة، أغلبها بنوك. هذا اختلال واضح.”

وتدعو إلى تطوير منظومة التمويل عبر أدوات جديدة مثل التمويل التضامني والاجتماعي وبنوك الجهات التي يمكن أن تموّل المشاريع الصغرى والمتوسطة خارج المركزية البنكية التقليدية.


 من ثقافة العقار إلى ثقافة الإنتاج

في تحليل اجتماعي لافت، تشير الدكتورة إلى أنّ المجتمع التونسي مازال أسير فكرة “الدار قبل الاقتصاد”، أي أنّ التونسي يفضّل توظيف أمواله في شراء العقارات بدل الاستثمار أو المبادرة.
وتقول بابتسامة خفيفة:

“الدار في ثقافتنا رمز للأمان، لكنها أيضاً رمز لرأس المال المجمّد. آن الأوان أن نغيّر هذا التفكير نحو الإنتاج، لا الاكتناز.”


 البطالة والطاقات المعطّلة

تتوقّف النصراوي مطوّلاً عند ملف البطالة، خصوصاً بين الشباب والنساء، مشيرة إلى أنّ النسبة في صفوف النساء بين 15 و24 سنة تتجاوز 40%، وهي من أعلى المعدّلات في المنطقة.

“نحن نضيّع نصف طاقاتنا البشرية. لا يمكن أن تتحدث عن نموّ أو ازدهار وأنت تُقصي هذا الحجم من الشباب والنساء من الدورة الاقتصادية.”


 تونس… بلد لا يسقط

ورغم كل هذا التحليل القاسي، تختم الدكتورة حديثها بنبرة تفاؤل عقلاني:

“تونس بلد يملك مقاوماته. نحن نعيش ضغطاً اقتصادياً حاداً، نعم، لكن لدينا رصيد من الكفاءات والموارد والمؤسسات يجعلنا قادرين على العودة. فقط يلزمنا وضوح في الرؤية وجرأة في القرار.”


🔸

من خلال هذا الحوار، يتّضح أنّ الدكتورة حبيبة النصراوي بن مراد لا تتحدث بلغة الأرقام فقط، بل بلغة الوطن.
هي لا تبيع وهماً ولا تزرع يأساً، بل تذكّرنا أنّ الاقتصاد ليس معادلة مالية فحسب، بل إرادة سياسية، وعمل، ووعي جمعيّ بأن تونس قادرة على النهوض متى ما قررت أن تنتج من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى