اقتصاد

حبيبة نصراوي: الاقتصاد التونسي بين قيود السياسة النقدية وتحديات التمويل البنكي

خاضت الدكتورة حبيبة نصراوي بن مراد، أستاذة التعليم العالي في العلوم الاقتصادية، في نقاشا معمّقا حول واقع الاقتصاد التونسي، وسياسات البنك المركزي، والانعكاسات الماكرو اقتصادية على المؤسسات الوطنية، في ظلّ مراجعة وكالة التصنيف الائتماني Moody’s للترتيب السيادي لتونس من C2A2 إلى C2A1.

رغم أنّ هذا الترفيع الطفيف أثار موجة من التفاؤل، شدّدت الدكتورة نصراوي على ضرورة النظر بعمق إلى ما وراء الأرقام، مؤكّدة أنّ تونس ما زالت مصنّفة في خانة المخاطر العالية، وأنّ التحسّن النسبي في التصنيف لا يعني بالضرورة تعافي الاقتصاد أو فعالية السياسات النقدية المتبعة.

البنك المركزي التونسي: بين النظرية والواقع

استهلّت الدكتورة نصراوي حديثها بتذكير تاريخي: تأسس البنك المركزي التونسي (BCT) سنة 1958، ليكون «المُقرض الأخير» للنظام البنكي الوطني.
وأوضحت أن طبيعة الاقتصاد التونسي، المعتمد بشكل شبه كلي على التمويل عبر القروض البنكية في ظلّ ضعف الادخار الوطني، تجعل من البنك المركزي محوراً أساسياً في دورة التمويل.

وأضافت:

«البنوك التجارية في تونس، التي يُفترض أن تموّل الاقتصاد، تجد نفسها مضطرة دوماً إلى إعادة التمويل لدى البنك المركزي، وهو ما يضع هذا الأخير في موقع استراتيجي يجعل كلّ تعديل في نسبة الفائدة الأساسية ذا أثر مباشر على الاقتصاد بأكمله».

اقتصاد قائم على المديونية البنكية

بيّنت الدكتورة نصراوي أنّ الاقتصاد التونسي يُموّل وفق نموذج «اقتصاد المديونية»، أي اقتصاد يعتمد على الاقتراض البنكي لا على الادخار أو الأسواق المالية.

وقالت:

«حوالي 98٪ من حاجيات تمويل الشركات في تونس تُغطّى عبر القروض البنكية، بينما لا تتجاوز مساهمة السوق المالية فقط، وهو رقم ضعيف جداً بالمقاييس الدولية».

وأشارت إلى أنّ هذا الواقع يفرض على السلطات النقدية عدم الإفراط في رفع نسب الفائدة، لأن أي تشديد في السياسة النقدية يؤدي تلقائياً إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي، خصوصاً في ظل ضعف القدرة الذاتية للمؤسسات على التمويل الذاتي، الذي نادراً ما يتجاوز 30٪.

النسيج الصناعي التونسي: هشاشة هيكلية مقلقة

تطرّق الحوار إلى بنية القطاع الصناعي التونسي، التي وُصفت بأنها «هشة ومجزأة».
فحسب الأرقام التي استعرضتها الدكتورة نصراوي، بلغ عدد المؤسسات التونسية المسجّلة في سنة 2022 حوالي 825,707 مؤسسة، منها 96٪ تنتمي إلى القطاع غير المنظم أو القطاع الموازي.

وأضافت:

«من بين هذه المؤسسات، هناك أكثر من 726 ألف مؤسسة فردية لا تشغّل أي عامل، في حين لا يتجاوز عدد المؤسسات الكبرى في البلاد 885 فقط، أي ما يعادل 0.11٪ من إجمالي النسيج الاقتصادي».

هذا الواقع، تضيف الأستاذة، يجعل من المؤسسات الصغرى والمتوسطة (PME) العمود الفقري للاقتصاد الوطني، إذ توفّر النسبة الأكبر من مواطن الشغل وتسهم بقدر هام في الناتج المحلي الإجمالي.
لكنها تواجه في المقابل عوائق حادة في النفاذ إلى التمويل البنكي، خاصة في ظل ارتفاع نسب الفائدة وتشدّد البنوك في الإقراض.

سياسة الفائدة المرتفعة: دواء مرّ أم عبء إضافي؟

منذ سنة 2015، ارتفع معدل السوق النقدية (TMM) من 4.89٪ إلى قرابة حالياً، وهو ما وصفته الدكتورة نصراوي بـ«الارتفاع المفرط».
وشرحت أنّ هذا المعدل يعكس تكلفة تبادل الأموال بين البنوك، ويتأثر مباشرة بنسبة الفائدة التي يحددها البنك المركزي.

وقالت بلهجة نقدية واضحة:

«من غير المفهوم أن يُبقي البنك المركزي على نسبة فائدة تقارب في وقت انخفض فيه التضخم إلى 5.7٪. المستثمر التونسي اليوم يواجه نسب فائدة على القروض تتراوح بين 12٪ و14٪، وهو ما يجعل أي استثمار شبه مستحيل».

وللمقارنة، أشارت إلى أن المغرب لم يتجاوز فيه معدل الفائدة منذ 2006 نسبة 3.25٪، وأن البنك المركزي الأوروبي خفّض نسبة الفائدة إلى حدود 2.5٪ في ست مناسبات متتالية خلال سنة 2024.

القيود النقدية وتأثيرها على النمو والتشغيل

ترى الدكتورة نصراوي أنّ البنك المركزي التونسي يركّز بشكل مفرط على هدف التحكم في التضخم، في حين يتجاهل أهدافاً أساسية أخرى مثل تحفيز النمو ومقاومة البطالة.

وقالت:

«لا يمكن أن نحقق استقراراً مالياً على حساب النمو الاقتصادي. البنك المركزي يجب أن يوازن بين ثلاثة أهداف: استقرار الأسعار، تشجيع الاستثمار، وتخفيض البطالة».

وأضافت أن سياسة الترفيع المستمر في الفائدة منذ 2018 لم تؤدِّ إلى كبح التضخم كما كان مأمولاً، لأن التضخم في تونس ليس ناتجاً عن زيادة الطلب الداخلي، بل عن عوامل خارجية وهيكلية، مثل تراجع قيمة الدينار وارتفاع كلفة الواردات واتساع الاقتصاد الموازي.

تصنيف تونس الائتماني: قراءة واقعية دون مبالغة

وفي عودة إلى موضوع التصنيف السيادي، أكدت الدكتورة نصراوي أنّ الترفيع الذي أعلنته Moody’s من C2A2 إلى C2A1 لا يجب أن يُفهم كنجاح اقتصادي كبير، لأنّ تونس ما تزال ضمن فئة الاستثمارات عالية المخاطر.

وأوضحت:

«التصنيف الجديد يعني ببساطة أنّ تونس تظلّ في المنطقة «C»، أي منطقة المخاطر العالية جداً. وهذا يعني أنّ الدولة إذا أرادت الاقتراض من الأسواق المالية، فستكون مجبرة على قبول نسب فائدة مرتفعة جداً، وهو ما يزيد عبء المديونية».

وأضافت أنّ تحسّن التصنيف مستقبلاً مرهون أساساً بـ«الاستقرار السياسي وتحسين الأداء الاقتصادي وتوحيد الرؤية بين السياسة النقدية والمالية».

تراجع التضخم: هل هو نجاح نقدي أم نتيجة ظرفية؟

في ختام الحوار، علّقت الدكتورة نصراوي على الانخفاض الأخير في معدل التضخم إلى 5.7٪، معتبرة أن هذا التراجع لا يعود بالضرورة إلى فعالية السياسة النقدية، بل إلى عوامل ظرفية.

وأوضحت:

«السبب الحقيقي هو تشديد الرقابة على الأسعار، وتكثيف حملات مكافحة الاحتكار والمضاربة، إلى جانب تراجع القدرة الشرائية للمواطن، مما أدى إلى انخفاض الاستهلاك وبالتالي الأسعار».

الحاجة إلى رؤية نقدية واقعية ومتكاملة

اختتم الصحفي منذر زيد اللقاء بالتأكيد على أن النقاش سيُستأنف في حلقة لاحقة، نظراً لأهمية الموضوع وتشعبه، فيما دعت الدكتورة نصراوي إلى مراجعة شاملة للسياسة النقدية التونسية لتكون أكثر توازناً وعدلاً بين استقرار الأسعار وحاجيات الاستثمار والتشغيل.

«آن الأوان، تقول الدكتورة، لأن نعيد التفكير في وظيفة البنك المركزي: ليس فقط كمؤسسة لحماية العملة، بل كفاعل اقتصادي يساهم في دفع التنمية وتحفيز المؤسسات الصغرى والمتوسطة على البقاء والإنتاج.»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى