صفوان بن عيسى يقدّم مشروع “المسار السياحي للمدينة العتيقة ببنزرت”: رؤية جديدة لإحياء الذاكرة وترميم الهوية

في حديث إذاعي مطوّل، كشف الأستاذ الجامعي المختصّ في الاقتصاد صفوان بن عيسى عن ملامح مشروع سياحي تراثي ضخم يتهيّأ ليغيّر وجه مدينة بنزرت ويُعيد وصلها بتاريخها المتعدّد الطبقات. المشروع الذي يعمل عليه فريق من الخبراء والمهندسين والفاعلين في المجتمع المدني، يهدف – كما يقول بن عيسى – إلى “ردّ الاعتبار لذاكرة مدينة عاشت تاريخاً عربياً وأندلسياً وعثمانياً وأوروبيّاً، وصياغة مسار يروي هذا التاريخ كما هو، بطبقاته وتحوّلاته وتفاصيله”.
هوية مزدوجة… وتراث يحتاج إلى قراءة جديدة
يؤكّد صفوان بن عيسى أنّ بنزرت ليست مدينة عادية، فهي تمتلك «شخصية معمارية وثقافية مزدوجة»:
مدينة عربية-إسلامية قديمة بهويتها الأندلسية والعثمانية، تقابلها
مدينة أوروبية بطابعها الكولونيالي.
هذه الثنائية، كما يصفها، “ثروة حقيقية لم تُستثمر بعد كما يجب”، وهو ما يدفع فريق «جمعية صيانة المدينة ببنزرت» إلى بناء مسار سياحي متكامل يعكس هذا التنوّع، ويحوّله إلى قيمة اقتصادية وثقافية.
من الفكرة إلى التنفيذ: فريق من المعماريين والخبراء
المشروع ليس مبادرة فردية، بل ثمرة عمل جماعي.
يقول بن عيسى:
“هو عمل فريق كامل من المعماريين والخبراء في جمعية صيانة المدينة. بدأنا بتصوّر أولي، ثم هندسة مسار واضح، ثم تحديد المواقع وترتيبها، وصولاً إلى تصور المحتوى الثقافي داخل كل موقع.”
المسار يتكوّن من شقّين:
-
المسار الأوروبي/الكولونيالي
-
المسار العربي-الإسلامي/الأندلسي
ويمرّ بمجموعة مواقع فريدة تشكّل جوهر ذاكرة المدينة.
أولاً: المسار الأوروبي… كنوز معمارية مخفية
كنيسة “نوتردام دو باريس” ببنزرت… جوهرة عمرها أكثر من قرن
يصفها بن عيسى بأنها “تحفة معمارية حقيقية”، رغم حاجتها إلى تدخّل لترميم هيكلها الإنشائي.
لكن الجديد ليس المبنى فقط، بل الفكرة التي يحملها المشروع داخله:
متحف دائم عن “معركة بنزرت”
إحدى أكثر المحطات غموضاً في التاريخ التونسي المعاصر، والتي شاركت فيها جميع جهات البلاد، لكنها بقيت شبه منسيّة في الذاكرة الرسمية.
ويسعى الفريق إلى جمع الأرشيف والوثائق والصور لإعادة كتابة تلك المرحلة وتقديمها للجمهور.
الكنيسة الأرثوذكسية “سان ألكسندر نيفسكي”
مبنى صغير الحجم، كبير القيمة.
شُيّد على يد الجالية الروسية التي استقرت في بنزرت، وبقي شاهداً على مرحلة مهمّة.
يقول صفوان بن عيسى:
“هذا الموقع صغير لكنه ثمين جداً، وهو محفوظ بشكل ممتاز، ويستحق أن يكون محطة ثابتة في المسار.”
منزل الأميرة “أناستازيا شيرينسكي”… ذاكرة روسية في قلب بنزرت
قصة مثيرة لامرأة نبيلة من العائلة القيصرية الروسية، لجأت إلى بنزرت ودرّست الرياضيات، وكان صفوان بن عيسى أحد تلاميذها.
تحوّل منزلها اليوم إلى متحف صغير يحفظ أثرها.
موقع “رولان غاروس”… المكان الذي لا يعرفه حتى أهل بنزرت
هنا يكشف بن عيسى “مفاجأة”:
رولان غاروس لم يكن لاعب تنس!
بل كان طيّاراً ومغامراً، وهذا الموقع يخلّد أوّل عبور جوي للمتوسط انتهى بهبوطه في بنزرت.
رأس إفريقيا (Cap Angela)… “كنز طبيعي يمكنه أن يجلب 20 مليون زائر سنوياً”
يتوقف بن عيسى مطوّلاً عند هذا الموقع:
“هو النقطة الأقرب إلى أوروبا من إفريقيا، ويماثل قيمة ‘Cape of Good Hope’ في جنوب إفريقيا. الطبيعة هنا ساحرة: غابات، شواطئ، منحدرات… يمكن أن يكون قاطرة سياحية ضخمة لتونس.”
ثانياً: المسار العربي والأندلسي… ذاكرة الروح والمدينة
سيدي الحسن البحري… القلب النابض للمسار
يعتبره بن عيسى “موقعاً شديد الخصوصية”، فهو مزيج بين الضريح التاريخي وبين المشروع الجديد للأكواريوم.
المكان اليوم يضم أكثر من 70 حوضاً و 8000 سمكة، مع تجربة مشاهدة عبر أحواض زجاجية عملاقة، إضافة إلى ورش تثقيفية للأطفال.
يقول بن عيسى:
“هو مشروع تربوي وثقافي قبل أن يكون ترفيهياً. نريد للأطفال أن يعيشوا تجربة تجمع بين أثر تاريخي وروح البحر.”
ويؤكّد أنّه سيكون “أقوى بكثير من متحف المحيطات في سلمبو”.
“طريق الشخصيات” نحو قلعة شنّ… التاريخ يمشي مع الزائر
على طريق دائري يضم ثلاثين تجويفاً (Niches)، ستوضع تماثيل أو مجسّمات لأهم الشخصيات في تاريخ تونس:
ديدون، عليسة، حنبعل، يوغرطة، عبيد الله بن الحبحاب، ابن خلدون، خير الدين باشا، أحمد باي، عبد الرحمن بن خلدون، الحبيب بورقيبة…
مع كتاب بثلاث لغات، وفيلم وثائقي بتقنية ثلاثية الأبعاد بالتعاون مع نفس الفريق الذي أنجز تجربة “قرطاج بتقنية الواقع المعزّز”.
هدف المسار هو:
“أن يمرّ الزائر على تاريخ تونس كلّه في نصف ساعة، بشكل بصري وتفاعلي.”
مواقع أخرى: تكميل اللوحة الكبرى للمدينة
يشمل المشروع أيضاً:
-
الميناء القديم وبرنامح تلوين الواجهات.
-
الأتربة الداخلية للأسوار.
-
قلعة إسبانيا والمسرح المقابل لها.
-
إعادة إحياء السقايات القديمة (سيدي مستيري، سيدي بنّا، ربحة، وغيرهم).
-
سوق الحلفاوين والمسالك القديمة.
-
متحف للتراث والعادات البنزرتية.
-
متحف أثري صغير في “حبس المدينة” مرتبط بقطع أثرية من مخازن المعهد الوطني للتراث.
كل جزء له محتوى خاص، وصياغة متحفية مدروسة.
ما الذي ينقص المشروع اليوم؟
يقول صفوان بن عيسى إنّ هناك ثلاثة عناصر أساسية مطلوبة لولادة المسار:
-
الترميم الكامل لكل موقع.
-
المحتوى الثقافي (متحف، فيلم، وثائق، عروض…).
-
الإشارات والمسالك الرقمية:
-
لافتات من أوّل عبور للجسر المتحرّك
-
خرائط على Google Maps
-
QR codes
-
تطبيقات سياحية
-
ويضيف:
“نحتاج أيضاً إلى تحسين الطرقات والنظافة، لأنها جزء من هوية المكان. ولا يمكن عرض تراث جميل في بيئة غير منظّمة.”
ويشيد بالدور التقني الكبير للمعهد الوطني للتراث، والبلدية، والسلط الجهوية.
“نريد أن تتحرك العائلات التونسية… قبل السياح الأجانب”
يختم الأستاذ صفوان بن عيسى حديثه قائلاً:
“السياحة الداخلية هي الأساس. نريد أن تأتي العائلات، والتلاميذ، والطلاب… يريد الجميع أن يفهموا مدينتهم وبلدهم. هذا مشروع هوية قبل أن يكون مشروعاً سياحياً.”
مشروع “المسار السياحي للمدينة العتيقة ببنزرت” ليس مجرد إعادة ترميم لمواقع تاريخية، بل هو إعادة بناء الذاكرة البنزرتية والتونسية بأكملها في تجربة بصرية وثقافية تليق بتاريخ متعدّد ومليء بالقصص.
وبفضل جهود الأستاذ صفوان بن عيسى وفريق الخبراء، يبدو أنّ بنزرت على أبواب تحوّل ثقافي وسياحي كبير… سيعيد إليها مكانتها التي تستحقها كمدينة تجمع بين البحر والتاريخ، وبين الذاكرة والحداثة.



