
لم تعد فرنسا، تلك التي كانت يوماً “منارة العالم” ومهد الثورات، تواجه مجرد أزمة في ميزانيتها أو تعثراً في سداد ديونها. إن ما تشهده الجمهورية الخامسة في خواتيم عام 2025 يتجاوز لغة الأرقام والمؤشرات الاقتصادية؛ إنه، بكل دقة، أزمة وجودية وحضارية تكشف عن عطب عميق في بنية الدولة، وشرخ هائل في روح الأمة.
السؤال المطروح “فرنسا إلى أين؟” لم يعد ترفاً فكرياً، بل هو صيحة إنذار أمام مشهد سريالي يجمع بين نخبة حاكمة منفصلة عن الواقع، وشعب مخدر غارق في الفردانية.
أولاً: وهم “الإصلاح” وجريمة النخبة الكاملة
لقد بني الانهيار الحالي على “مقامرة” سياسية واقتصادية قادها الرئيس إيمانويل ماكرون منذ 2017. كانت السردية بسيطة ومغرية: “حرروا الأثرياء والشركات من الضرائب، وسوف يغدقون الخير على الجميع”. لكن الواقع كشف عن خدعة تاريخية؛ فقد تخلت الدولة طواعية عن عشرات المليارات من إيراداتها السيادية لصالح “الأوليغارشية” المالية، دون أن يعود ذلك على الاقتصاد الحقيقي بشيء.
هذا “الفساد المقنن”، حيث يسيطر بضعة مليارديرات على وسائل الإعلام لصناعة الرؤساء، وحيث ينتقل المسؤولون من الوزارات إلى مجالس إدارة الشركات الكبرى (Pantouflage)، خلق نظاماً محصناً ضد المحاسبة. لا توجد محاكم لقادة قادوا بلادهم للإفلاس، لأن “الفشل السياسي” في الديمقراطيات الليبرالية ليس جريمة، بل هو مجرد “وجهة نظر”. لقد تم خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر، وبات الشعب وحده مطالباً بدفع فاتورة العشاء الباذخ الذي لم يُدعَ إليه.
ثانياً: خريف “المواطن” وصعود “المستهلك”
لعل الجانب الأكثر مأساوية في المشهد الفرنسي ليس قسوة السلطة، بل موت السياسة في الشارع. إن التعويل على ثورة شعبية تعيد تصحيح المسار – على غرار 1789 – يصطدم اليوم بحقيقة سوسيولوجية مرة: لقد نُزع فتيل الثورة من الروح الفرنسية.
المجتمع الفرنسي، كما نراه اليوم، مجتمع “مخدر” (Anesthésiée). لقد نجحت عقود من الهندسة الاجتماعية في تحويل “المواطن الثائر” إلى “مستهلك خائف”. إنه مجتمع مكبل بالأغلال الذهبية للقروض الاستهلاكية، ومنغمس في “التفاهة” كآلية دفاع نفسي للهروب من واقع بائس.
لقد استبدل الفرنسيون ساحات النضال بشاشات الهواتف، وحل الصراع الأفقي (بين الفئات الاجتماعية المتناحرة) محل الصراع العمودي (ضد السلطة). الموظف يحسد العاطل، وسكان المدن يحتقرون الأرياف، في حرب “الكل ضد الكل” التي تضمن بقاء النظام آمناً. إنها متلازمة “الضفدع المغلي”؛ فالشعب يتكيف مع تآكل كرامته ومعيشته ببطء شديد، حتى تجاوز نقطة اللاعودة دون أن يصرخ.
ثالثاً: سيناريو المستقبل.. الاحتضار البطيء
إذن، إلى أين تتجه فرنسا؟
كل المؤشرات تقودنا بعيداً عن سيناريو “الانفجار الكبير” أو الثورة العارمة، نحو سيناريو أكثر كآبة: التحلل البطيء.
فرنسا تتجه لتصبح “الرجل المريض” في أوروبا، ليس فقط مالياً، بل سيادياً. الديون المتراكمة ستفرض “وصاية” مقنعة من الأسواق المالية والاتحاد الأوروبي. ستصبح القرارات المصيرية لباريس تُكتب في بروكسل وفرانكفورت ونيويورك.
داخلياً، سنشهد ما يمكن تسميته بـ “لبننة فرنسا”: دولة عاجزة تكتفي بتسيير الأعمال، خدمات عامة (صحة، تعليم) تنهار وتصبح حكراً على الأغنياء في القطاع الخاص، بينما تُترك الغالبية “المخدرة” لتتدبر أمرها في ظل فقر متزايد وهجرة صامتة للعقول والكفاءات.
خاتمة: نهاية الاستثناء الفرنسي
فرنسا ليست على حافة الإفلاس المالي فحسب، بل هي تعيش لحظة إفلاس أخلاقي وحضاري.
النخبة اختارت مصالحها الطبقية على حساب الوطن، والشعب اختار “النجاة الفردية” والراحة المؤقتة على حساب الكرامة الجماعية.
في غياب صدمة وجودية قاهرة (كجوع حقيقي أو حرب شاملة) توقظ الغريزة البدائية لهذا الشعب، فإن فرنسا ستتحول تدريجياً من فاعل في التاريخ إلى مجرد “متحف” جميل، يسكنه شعب أنهكه التاريخ، يحكمه موظفون لدى البنوك، ويعيش على ذكريات عظمة لم تعد موجودة.
إنها ليست النهاية الدرامية التي تصورها السينما، بل هي النهاية الهادئة والمؤلمة لأمة قررت أن تنام بينما يشتعل منزلها.


