الشاذلي العبدلي: البحث العلمي في تونس: ريادة في الإنتاج… وتعثر في التحويل إلى واقع

رغم المكانة المتقدمة التي تحتلها تونس عالميًا في مجال الإنتاج العلمي، فإن المسار من المخبر إلى الميدان ما يزال مليئًا بالعوائق. فبين وفرة الأبحاث، وضعف تثمين نتائجها اقتصاديًا واجتماعيًا، تتجلى مفارقة حقيقية تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل البحث العلمي في البلاد.
أرقام مشرّفة… ونتائج مقلقة
في تصنيف سنة 2024، احتلت تونس المرتبة 14 عالميًا من أصل 133 دولة من حيث الإنتاج العلمي، وهي الأولى إفريقيًا في عدد المنشورات العلمية وعدد الباحثين قياسًا بعدد السكان. إنجاز يؤكد جودة الباحث التونسي وقوة المنظومة الأكاديمية من حيث الكم والنوعية.
لكن الصورة تنقلب عند النظر إلى مؤشرات أخرى لا تقل أهمية، إذ تُصنَّف تونس:
-
في المرتبة 103 عالميًا من حيث التفاعل بين الجامعات والهياكل البحثية،
-
في المرتبة 109 في تكوين العناقيد (Clusters)،
-
في المرتبة 122 في قدرة المؤسسات الاقتصادية على استيعاب المعرفة والابتكار،
-
وفي المرتبة 130 من أصل 133 فيما يخص المنشورات المشتركة بين الباحثين والشركاء الاقتصاديين.
بعبارة صريحة: نحن من الأوائل في إنتاج المعرفة، ومن الأخيرين في تحويلها إلى قيمة مضافة.
أين يكمن الخلل؟
يعود هذا الخلل، وفق المختصين، إلى سبب مركزي يتكرر في كل التشخيصات:
أزمة تواصل وثقة بين الباحث والمؤسسة الاقتصادية.
فالطرفان لا يتحدثان اللغة نفسها:
-
الباحث يُنتج معرفة علمية عميقة، لكنه لا يجد قنوات فعالة لشرحها أو تسويقها.
-
والمؤسسة الاقتصادية تشكك أحيانًا في قدرة البحث العلمي على تقديم حلول عملية وسريعة.
النتيجة: جدار صامت بين عالمين يفترض أن يتكاملا.
من البحث من أجل البحث… إلى البحث من أجل الأثر
تونس اليوم تعيش تحوّلًا مهمًا في فلسفة تمويل البحث العلمي.
فبعد مرحلة طويلة ركزت على البحث الأكاديمي البحت، تأتي مرحلة جديدة يكون فيها التثمين، والتطبيق، والأثر الميداني في قلب السياسات العمومية.
هذا التحول تجسد في اعتماد البحث التشاركي، أي البحث الذي:
-
ينطلق من مشاكل حقيقية يطرحها المحيط الاقتصادي والاجتماعي،
-
ويشرك منذ البداية شركاء اقتصاديين (مؤسسات، بلديات، مجامع مهنية…)،
-
ويهدف إلى إنتاج حلول قابلة للتطبيق، لا مجرد نتائج مخبرية.
برنامج «موبيدوك»: جسر بين الجامعة والمؤسسة
من أبرز الآليات التي راهنت عليها الدولة منذ سنة 2012، برنامج Mobidoc، الذي يُعد نموذجًا فعليًا لنقل التكنولوجيا.
فكرة البرنامج بسيطة وعميقة في آن واحد:
إدماج الدكتور أو طالب الدكتوراه داخل مؤسسة اقتصادية، ليصبح سفيرًا لمخبره، وينقل المعرفة والتقنيات من الجامعة إلى المؤسسة.
وقد أفرز البرنامج:
-
أكثر من 907 مشروع في قطاعات متعددة (الفلاحة، الصناعات الغذائية، الصحة، البيئة، الكيمياء…)،
-
ونجح في إدماج حوالي 20% من المشاركين بصفة دائمة داخل المؤسسات،
-
والأهم: خلق شراكات مستدامة بين الجامعات والمؤسسات، ما سمح بتجريب نتائج البحث في ظروف واقعية.
معضلة المهن الجديدة: غائبة عن الاعتراف
رغم ظهور أدوار جديدة مثل:
-
خبير نقل التكنولوجيا،
-
متخصص في التثمين،
-
وسيط بين البحث والمؤسسة،
فإن هذه المهن غير معترف بها رسميًا داخل المنظومة، ولا توجد مسارات واضحة للتكوين أو الانتداب، ما يجعل أغلب من يشتغلون بها يعملون بصفة تطوعية أو مؤقتة.
هذا النقص في “هياكل الوساطة” يُعد من أبرز معيقات التحويل الفعلي للبحث العلمي إلى مشاريع اقتصادية.
التكنولوجيات الخضراء والبيئة: فرصة تونسية واعدة
في ظل التغيرات المناخية، تمتلك تونس رصيدًا علميًا مهمًا في مجالات البيئة، خاصة:
-
النباتات المتحملة للملوحة (الهالوفيت)،
-
استصلاح الأراضي المالحة،
-
المعالجة البيولوجية للتلوث بالمعادن الثقيلة،
-
حلول مستوحاة من الطبيعة لمقاومة الجفاف.
وتبرز هنا قصص نجاح لبحوث تحولت إلى تدخلات ميدانية، مثل:
-
استعمال النباتات لتثبيت أو استخراج المعادن الثقيلة من مناطق ملوثة،
-
إعادة تهيئة أراضٍ فلاحية متدهورة،
-
تحسين مردودية محاصيل باستعمال تقنيات بيئية منخفضة الكلفة.
«غرين إمباكت»: البحث من أجل أثر ملموس
ضمن هذا التوجه، تم إطلاق برنامج Green Impact، الذي يموّل مشاريع بحث تطبيقي ذات أثر مباشر في:
-
الاقتصاد الدائري،
-
إدارة النفايات،
-
الموارد الطبيعية،
-
الطاقات المتجددة،
-
النجاعة الطاقية.
وقد شهد البرنامج إقبالًا لافتًا:
-
أكثر من 200 مؤسسة اقتصادية مشاركة،
-
أكثر من 200 مخبر بحث،
-
تقديم 76 مشروعًا، تم انتقاء 15 مشروعًا لتمويل يصل إلى 700 ألف دينار للمشروع الواحد.
ما يعكس تعطشًا حقيقيًا للتعاون… لكن بإمكانيات تمويل محدودة.
الجامعة الريادية: إصلاح لا مفر منه
أحد الرهانات الكبرى اليوم هو تحويل الجامعة التونسية إلى جامعة ريادية، قادرة على:
-
إنشاء شركات ناشئة (Spin-offs)،
-
تسويق براءات الاختراع،
-
مرافقة الطلبة والباحثين في ريادة الأعمال.
ويتطلب ذلك:
-
إحداث هياكل قانونية جديدة داخل الجامعات،
-
تكوين كفاءات في الابتكار والملكية الفكرية،
-
تغيير الثقافة السائدة من “جامعة للتدريس فقط” إلى “جامعة لإنتاج القيمة”.
الاعتراف بالباحث… ضرورة لا ترف
رغم التتويجات الدولية التي يحصدها باحثون تونسيون، فإن الاحتفاء الإعلامي والمجتمعي يظل ضعيفًا.
والحال أن الاعتراف ليس ترفًا، بل عنصرًا أساسيًا في:
-
تحفيز الباحث،
-
خلق قدوات علمية للشباب،
-
تعزيز الثقة المجتمعية في البحث العلمي.
الخلاصة: المعرفة موجودة… والتحدي في الوصل
تونس لا تعاني من نقص في العقول ولا في الأفكار، بل من ضعف الجسور:
-
جسور الثقة،
-
جسور التواصل،
-
جسور التثمين والتطبيق.
وإذا نجحت البلاد في تقوية هذه الجسور، فإن البحث العلمي التونسي قادر ليس فقط على رفع التصنيفات، بل على تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بعمق واستدامة.
المشكلة ليست في البحث العلمي…
بل في كيفية الاستماع إليه، وفهمه، وتحويله إلى فعل.



