اقتصاد

Finance 3.0: عندما تصبح الأصول رموزًا… ولماذا لم تعد «التوكنة» ضربًا من الخيال

لم تعد «التوكنة» (Tokenisation) كلمة عابرة في قاموس التكنولوجيا المالية، ولا فكرة حالمة يتداولها روّاد البلوكشين في المؤتمرات. اليوم، تتقدّم هذه الفكرة بثبات لتفرض نفسها كأحد أعمدة التحوّل العميق في البنية التحتية للمال العالمي. هذا ما أكّده بوضوح لاري فينك، الرئيس التنفيذي لـBlackRock، وروب غولدشتاين، مدير العمليات في المجموعة، في مقال مرجعي نشرته مجلة The Economist مطلع ديسمبر 2025.

اللافت في طرح الرجلين ليس الحماسة التقنية، بل ثقل الجهة التي تتحدث. نحن أمام أكبر مدير أصول في العالم، يدير تريليونات الدولارات، ويعرف أكثر من غيره مكامن الخلل في النظام المالي التقليدي: آجال تسوية طويلة، سجلات مجزأة، بيروقراطية مكلفة، ومخاطر مقابلة لا تزال قائمة رغم كل التحديثات.

من SWIFT إلى البلوكشين: تحوّلات نادرة ولكن حاسمة

يقارن فينك وغولدشتاين التوكنة بإدخال نظام SWIFT سنة 1977، تلك اللحظة التي غيّرت طريقة تواصل البنوك وخفّضت زمن المعاملات الدولية جذريًا. المقارنة هنا ليست بلاغية: نحن أمام تحوّل بنيوي نادر، لا يتكرّر إلا كل عقود.

الفكرة بسيطة في ظاهرها، ثورية في آثارها: تسجيل ملكية الأصول (أسهم، سندات، عقارات…) على سجل رقمي مشترك وغير قابل للتلاعب. النتيجة؟
تسوية شبه فورية، تقليص حاد لمخاطر عدم الوفاء، وانخفاض كبير في كلفة المعاملات. وهو ما لطالما أكّد عليه اقتصاديون مؤسسون مثل رونالد كوز ودوغلاس نورث: خفض كلفة التبادل يعيد تشكيل الاقتصاد نفسه.

ديمقراطية الاستثمار: المال لم يعد حكرًا على الكبار

لكن الطرح لا يقف عند حدود الكفاءة التقنية. فالتوكنة، بحسب رؤية BlackRock، تحمل بعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا بالغ الأهمية: فتح أبواب الأسواق الخاصة أمام المستثمرين الأفراد.

العقارات، البنية التحتية، الديون الخاصة… أصول ظلّت لسنوات طويلة حكرًا على الصناديق الكبرى. بفضل التوكنة، يمكن تفتيت هذه الأصول إلى حصص صغيرة، ما يسمح للأسر بتنويع استثماراتها، ويمنح الشركات الناشئة والمؤسسات المتوسطة مصادر تمويل أكثر مرونة وأقل كلفة.

هنا يصبح الخطاب معياريًا بقدر ما هو اقتصادي: المالية الأكثر شمولًا هي أيضًا مالية أكثر كفاءة.

دروس التاريخ: لا ابتكار بلا تنظيم

ورغم هذا التفاؤل، لا يقع فينك وغولدشتاين في فخ السذاجة. التاريخ، وتحديدًا أزمة 1929، يعلّمنا أن الابتكار المالي غير المؤطر قد يتحوّل بسرعة إلى مصدر هشاشة نظامية.

الرسالة واضحة: التوكنة تحتاج إلى تنظيم ذكي، لا يخنق الابتكار ولا يتركه ينفلت. تنظيم يضمن قابلية التشغيل البيني بين المالية التقليدية والرقمية، ويبني جسرًا بين نظامين يتقاطعان أكثر مما يتصارعان.

تجربة تونسية… سبقت زمنها

هذا النقاش العالمي يعيد إلى الواجهة تجربة تونسية لافتة، يروي تفاصيلها الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي صفوان بن عيسى. ففي سنة 2017، انطلق مع فريق من الماليين، بقيادة هشام بن فضل، في مغامرة جريئة: إطلاق صندوق استثماري مُرمّز (Tokenized Fund) تحت اسم AJYAL Capital.

الرهان كان واضحًا: دمقرطة الاستثمار في رأس المال، تفتيت تذاكر الدخول، وتمكين الشركات الناشئة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة من تمويل أسرع وأذكى.

لكن السوق – كما يعترف بن عيسى بمرارة هادئة – لم يكن جاهزًا. لا المنظومة التنظيمية كانت مهيأة، ولا الثقافة المالية استوعبت عمق التحوّل. النتيجة؟ في 2023، وبطلب منه كرئيس لمجلس الإدارة، تم غلق الصندوق وسحب الترخيص من قبل هيئة السوق المالية.

حدس صحيح… في توقيت خاطئ

اليوم، وبعد قراءة مقال The Economist، يتضح أن تلك التجربة لم تكن خطأً في الرؤية، بل سبقًا في التوقيت. ما كان يُنظر إليه كـ«شذوذ» أصبح يُقدَّم من قبل BlackRock نفسها كـ«الجيل الجديد من البنية التحتية المالية».

الدرس، كما يلخّصه بن عيسى بجملة بليغة: «لا ينبغي أن تسبق الرقصة الموسيقى».
فحين تنضج البيئة، ويتكيّف المنظمون، وترسل المؤسسات الكبرى إشاراتها… يصبح الابتكار قدرًا لا مهرب منه.

عندما تتحدث BlackRock… يبدأ العدّ التنازلي 

اليوم، ومع إعلان أكبر مدير أصول في العالم أن التوكنة هي الثورة القادمة، لم نعد أمام فرضية، بل أمام جدول زمني. ستصبح التوكنة رائجة، ثم معيارًا، ثم شرطًا للبقاء في الأسواق العالمية.

أما أولئك الذين جرّبوا مبكرًا، فقد يكتشفون – متأخرًا ربما – أنهم لم يكونوا مخطئين… بل فقط سابقين لعصرهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى