الحوض المنجمي… كنزٌ تحت التراب ومأساة فوق الأرض

ما من جريمةٍ أكبر من أن تجلس دولةٌ على سبع ثرواتٍ طبيعية، وتعيش كأنها في الرمق الأخير! (الأستاذ عماد العيساوي)
في أمّ العرائس والمتلوي والمظيلة، لا يرقد تحت الأرض فسفاطٌ فحسب، بل الجبس، والرخام الكلسي، والطين الصناعي، وتربة نادرة تصلح لصناعة إسمنتٍ مقاومٍ للماء يُستخدم في الجسور والسدود العملاقة.
ليست هذه مجرد أحاديث مقاهي أو أساطير شعبية، بل حقائق تثبتها الخرائط الجيولوجية والدراسات الدولية التي تجاهلتها الحكومات المتعاقبة.
كنوز الجنوب المنسيّ
تُقرّ الهيئات العالمية بأنّ تونس تمتلك رابع أكبر احتياطي جبس جوراسي في العالم، يمتدّ على أكثر من مئة كيلومتر من الصخور البيضاء، القادرة على تغيير وجه الجنوب التونسي بأكمله لو أُحسن استغلالها.
أما مجموعة المتلوي (Metlaoui Group) التي درستها بعثات علمية لعقود، فهي ليست مجرّد منجم فسفاط، بل نظامٌ جيولوجيّ غنيّ بالكالسيت والدولومايت والطينيات الدقيقة، الصالحة لصناعات الآجر والسيراميك والمواد البنائية الحديثة.
بين الغبار والبطالة
رغم كل ذلك، لا مصانع ولا استثمارات.
الذي يُرى هو غبار الفسفاط يملأ صدور الأطفال، ومياهٌ ملوّثة بفضلات الغسيل، ومدنٌ تشيخ وهي تبحث عن شربة هواء نظيفة.
المفارقة أنّ مدن الثروة باتت اليوم مدن الفقر والمرض، وأنّ الجنوب الذي يحمل خيرات البلاد يعيش على الهامش.
الدولة الأسيرة والبيروقراطية الخائفة
لماذا لا تتحرّك الدولة؟
لأنها أسيرة عقل بيروقراطي خائف يرى في شركة فسفاط قفصة إلهاً صغيراً يحتكر الرزق ويمنع الآخرين من الاقتراب من باطن الأرض.
كل الحكومات التي مرّت تعاملت مع الحوض المنجمي على أنه أداة للتهدئة الاجتماعية، لا منطقة استراتيجية تحتاج إلى مخطط وطني جديد يغيّر طبيعة التنمية في الجنوب.
الحل ليس في مزيد من الفسفاط
الحلّ الحقيقي لا يكمن في رفع إنتاج الفسفاط، بل في تفكيك احتكاره وفتح الباب أمام شركات وطنية وجهوية تستثمر في الثروات الأخرى:
- الجبس وصناعاته التحويلية،
- الطين الصناعي والسيراميك،
- الرخام الكلسي وتثمين النفايات المنجمية،
- السياحة الجيولوجية،
- واستعمال الطاقة المتجددة والمياه المعاد تدويرها في مشاريع صناعية نظيفة.
لكنّ هذا المسار يصطدم بـ اقتصاد الريع والسمسرة السياسية الذي تغذّى لعقود من “الفسفاط وحده”.
مدن فوق الثروة… وتحت الفقر
لقد أصبحت أم العرائس والمتلوي رمزين للعبث التنموي.
مدنٌ تقف على ثراءٍ معدنيٍّ هائل، وتحتها عروق من الذهب الأبيض، لكنها تموت عطشاً وبطالةً وتلوّثاً.
من المخجل أن تلمع جبال الجبس تحت الشمس دون أن يُبنى فيها مصنع وطنيٌّ لتصدير الجبس إلى إفريقيا وأوروبا،
ومن المؤلم أن نستورد الإسمنت المقاوم للماء بينما تُهدر لدينا التربة التي يمكن أن تنتجه محلياً.
أزمة إرادة لا أزمة موارد
الأزمة ليست في الجيولوجيا، بل في الإرادة.
فالحوض المنجمي لا يحتاج إلى لجان ولا شعارات، بل إلى رؤية علمية وصناعية جديدة تُحوّله من منطقة استخراج خام إلى منطقة تصنيع متكاملة، فيها مختبرات، ومعاهد جيولوجيا، واستثمارات خضراء.
من مقبرة بيئية إلى مختبر صناعي
المستقبل ليس في “زيادة شحنات الفسفاط”، بل في صناعة الجبس، والرخام، والإسمنت تحت الماء، والطين الصناعي،
وفي إنقاذ البيئة والصحة العامة من التدهور الذي تسبّب فيه الإهمال والرماد الأسود.
فالحوض المنجمي يمكن أن يكون مختبر تونس الصناعي، لا مقبرتها البيئية.
الكلمة الأخيرة: كسر الطابوهات
لن يحدث التغيير ما لم نكسر الطابوهات ونواجه الحقيقة:
إمّا أن تستثمر الدولة في كل ما في الأرض،
أو تترك المجال للباحثين والمستثمرين الوطنيين ليعيدوا للجنوب مكانته التي يستحقها.