الاقتصاد التونسي بين وهم النمو وضغط التضخم: قراءة معمّقة في تحليل الخبير العربي بن بوهالي

يمرّ الاقتصاد التونسي في المرحلة الحالية بمنعطف بالغ الحساسية، وسط مؤشرات ظاهرها إيجابي وباطنها يعكس هشاشة غير مسبوقة في الأداء الاقتصادي الحقيقي. هذا ما يكشفه الخبير الاقتصادي العربي بن بوهالي في تحليل دقيق يُبرز مفارقة التعايش بين نمو اسمي محدود وانكماش فعلي يطاول أغلب القطاعات الحيوية، مؤدياً إلى حالة ركود تضخمي تضيق فيها خيارات الأسر والمؤسسات على حدّ سواء.
نمو بلا أثر… وأسرة تبحث عن هواء اقتصادي
على الرغم من تسجيل نمو سنوي قدره 2.4% في الربع الثالث، فإن هذا الرقم لا يعكس تحسنًا حقيقيًا في معيشة الأسرة التونسية، لسبب بسيط: النمو ظلّ أضعف من التضخم طوال الأشهر التسعة الماضية. يؤكد بن بوهالي أن الاقتصاد انكمش اسميًا في الربع الثالث بنسبة طفيفة، وأن النمو الذي ظهر في فترات سابقة كان مدفوعًا بضخ أكثر من 7 مليارات دينار من البنك المركزي، ما يجعله نموًا مصطنعًا لا يعكس زيادة في الإنتاج أو خلق الثروة.
والنتيجة واضحة: الأجور ترتفع أقل من الأسعار، والناتج المحلي للفرد عاد إلى مستوى 2019، فيما فقدت الأسرة التونسية أكثر من 20% من قدرتها الشرائية خلال ثلاث سنوات فقط.
ركود تضخمي يُعمّق هشاشة الاقتصاد
تُظهر نتائج الربعين الأول والثالث نموًا صفريًا وسالبًا، مما يضع تونس رسميًا في نطاق الركود التضخمي (Stagflation). معطيات هذا الوضع مقلقة:
-
بطالة عامة: 15.4%
-
بطالة الشباب: 40.1%
-
بطالة حاملي الشهادات العليا: 24.9%
هذا المزيج من البطالة المرتفعة والتضخم وجمود الإنتاج يعكس تقلصًا حادًا في محركات النمو، وغيابًا شبه كامل للاستثمار وخلق فرص العمل.
قطاع مالي يتراجع… واستثمار يختفي
يحذّر بن بوهالي من تراجع خطير في القطاع البنكي والمالي، الذي سجّل انكماشًا متتاليًا عبر ثلاثة أرباع العام:
-
الربع الأول: –8.6%
-
الربع الثاني: –6.8%
-
الربع الثالث: –11%
الأخطر من ذلك أن البنوك أوقفت تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة, ووجّهت معظم مواردها إلى الدولة والشركات العمومية لتغطية الأجور والدعم. هذا التحول أدى إلى إفلاس أكثر من 50 ألف شركة خلال عام واحد، بينها 45 شركة خارجية فقدت الاقتصاد جزءًا مهمًا من موارده من العملة الصعبة.
بورصة تنتعش… واقتصاد يتراجع
في مفارقة حادة، شهد مؤشر تونيديكس نموًا تاريخيًا بنسبة 30%، في وقت يتراجع فيه الاقتصاد الحقيقي وينكمش الإنتاج. يصف بن بوهالي هذه الظاهرة بأنها اقتصاد بسرعتين:
-
قطاع مالي محدود يحقق أرباحًا غير مسبوقة،
-
واقتصاد حقيقي يعاني بطالة وفقرًا وانكماشًا.
هذه الدينامية غير المتوازنة تعمّق الفجوة الاجتماعية، وترفع الفقر من 15.2% إلى 16.8%، وتحوّل الثروة نحو فئة صغيرة ذات نفوذ في سوق المال.
إنفاق بلا إنتاج… واقتراض بلا رؤية
وفق تحليل بن بوهالي، لم تستثمر الحكومات المتعاقبة في عهد الرئيس قيس سعيد—رغم تغيّر ستة رؤساء حكومات—في الاقتصاد الحقيقي:
لا جامعات جديدة، لا مستشفيات، لا مراكز بيانات، لا منشآت نقل، ولا بنية تحتية قادرة على توليد النمو.
المحصلة: اقتراض يفوق 67 ألف مليون دينار خلال خمس سنوات صُرف معظمه على الأجور والدعم وخدمة الدين، دون أي أثر استثماري يخلق الثروة أو الوظائف.
قطاعات تتقدم… وأخرى تتراجع
قطاعات سجلت نموًا
-
الزراعة: 11.5%
-
الصناعات الغذائية: 1%
-
الاستهلاك الأسري: 6.7%
-
الصناعات التحويلية: 1.6%
-
البناء: 3.9%
قطاعات تعيش انكماشًا
-
البنوك والتمويل: –11%
-
تكرير البترول: –2.3%
-
النسيج: –3.8%
-
التنقيب عن النفط والغاز: –13.1%
-
التجارة الخارجية: –4.3%
-
الإنتاجية: –0.3%
هذا التباين يُظهر هشاشة بنية النمو وافتقارها لقاعدة إنتاجية صلبة.
أين ذهبت ثمار النمو؟ ولماذا لا يشعر بها المواطن؟
يلخّص بن بوهالي الإجابة في ثلاثة أسباب:
-
تآكل الأجور مقارنة بالتضخم
-
فقدان الوظائف وارتفاع البطالة
-
إفلاس المؤسسات وتراجع الاستثمار
حتى السياحة وتحويلات المغتربين، التي تبدو مرتفعة اسميًا، تنخفض فعليًا عند احتساب تراجع الدينار وارتفاع الأسعار.
سبل التعافي: خارطة طريق لعام 2026
يقترح الخبير مجموعة إصلاحات واقعية لإنقاذ الاقتصاد، أبرزها:
-
تمويل الفلاحين عبر إعادة هيكلة ديون ديوان الحبوب لخفض التضخم الغذائي.
-
دعم مؤسسات الطاقة (STEG وETAP) لتقليص كلفة الإنتاج.
-
تخفيض الضرائب على الشركات وتوجيهها للتوسع مغاربيًا نحو ليبيا والجزائر.
-
إدراج الشركات العمومية في البورصات لجمع التمويل وخلق 50 ألف وظيفة سنويًا.
-
إصلاح النظام الضريبي وهيكلة القطاع البنكي.
-
تأمين مصادر طاقة رخيصة تعيد للصناعة قدرتها التنافسية.
الخلاصة: اقتصاد يستهلك ولا ينتج
يختصر العربي بن بوهالي المشهد الاقتصادي في نقاط حاسمة:
-
نمو اسمي 0% هذا الربع.
-
80% من العملة الصعبة من السياحة والتحويلات موجّه لسداد الديون.
-
77% من النمو مبني على الاستهلاك والاقتراض… وليس على الاستثمار والإنتاج.
إن تونس، وفق هذا التحليل، في حاجة عاجلة إلى سياسات إنتاجية شجاعة تعيد الاعتبار للصناعة والفلاحة والطاقة والاستثمار الخاص، وتمنح الاقتصاد فرصة حقيقية للعودة إلى مسار النمو، بعيدًا عن الأرقام الوهمية والإنفاق غير المنتج.



