اقتصاد

صفوان بن عيسى: تونس بين الصين وأوروبا… من هامش التاريخ إلى قلب الخرائط الجديدة

تونس في مفترق التحوّلات العالمية

في لحظة مضطربة يعاد فيها تشكيل الاقتصاد العالمي، تقف تونس على ضفاف المتوسط كما لو أنّها تخرج من صمتٍ طويل لتجد نفسها فجأة داخل مشهد لا يشبهها، لكنه يحتاجها. يتقاطع فوق رأسها ظلّ التنّين الصيني الذي يبحث عن منفذ جديد نحو أوروبا، مع بحث أوروبا المذعور عن تخفيف تبعيتها لصناعات بكين، فيما تكشف الولايات المتحدة يوماً بعد آخر أنها لن تعود حامية النظام التجاري كما كانت في الماضي. وفي هذا المنعطف التاريخي، يرى الأستاذ صفوان بن عيسى أنّ تونس، رغم صغر حجمها، تمتلك موقعاً يسمح لها بأن تكون لاعباً مؤثراً في أكبر معركة جيو–اقتصادية يشهدها القرن.

أوروبا بين المراجعة والارتباك

لقد وصفت مجلة The Economist هذا التحوّل الأوروبي بدقّة حين أكدت أنّ الاتحاد الأوروبي يعيش لحظة مراجعة مؤلمة بعد أن بنى جزءاً كبيراً من نموه على المصانع الصينية. فسنوات العولمة التي منحت أوروبا القدرة على شراء كل شيء من بكين بأسعار منخفضة انقلبت اليوم إلى عبء ثقيل. أصبحت السيارات الكهربائية الصينية تنافس الصناعات الألمانية في عقر دارها، وصارت بطاريات الليثيوم والرقائق والمعادن النادرة أسلحة في لعبة النفوذ بين القارتين. لم يعد الأوروبيون يخفون قلقهم: فالإغراق، والدعم الحكومي الصيني، والسيطرة على المواد الأساسية جعلت بروكسل تتحرك في اتجاه واحد هو “تقليل المخاطر” وليس القطيعة، إذ لا قدرة لها على خوض حرب اقتصادية مع الصين ولا على قطع العلاقة معها.

فراغ في الجنوب… وتونس كإمكانية غير مُلتفت إليها

إلا أنّ أوروبا، في سعيها لإعادة توزيع سلاسل التوريد، تصطدم بحقيقة مزعجة: العالم القريب منها لا يقدّم الكثير من البدائل.
المغرب وتركيا انطلقا بسرعة في سباق جذب المصانع.
الجزائر تتحرك ببطء.
مصر ترزح تحت وطأة الديون.
ويبقى الفراغ الأكبر، كما يشير صفوان بن عيسى، في مكان لا ينتبه إليه الأوروبيون بما يكفي: تونس.

مزايا تونس الخفية في جيوبوليتيك اليوم

تونس التي تبعد ساعات قليلة فقط عن عواصم أوروبا ليست مجرد نقطة على الخريطة. إنّها تجمع ما هو نادر في هذا الزمن: يد عاملة عالية التأهيل، كلفة إنتاج منخفضة، بيئة قانونية تتقدّم بثبات نحو التماهي مع التشريعات الأوروبية، وبنية لوجستية قابلة للتحديث بسرعة، من بنزرت شمالاً إلى جرجيس جنوباً. هذه المزايا التي قد تبدو عادية في الأوقات العادية تصبح اليوم جوهرية في زمن الأزمات العالمية، حيث تبحث أوروبا عن شريك قريب يضمن لها استمرارية صناعاتها دون أن يكون عبئاً سياسياً عليها.

الصين تبحث عن بوابة جديدة… وتونس في الحسبان

وفي الجهة المقابلة، تدرك الصين أكثر من أي وقت مضى أنّ معركتها الاقتصادية لا يمكن أن تُخاض وحدها من داخل حدودها. فهي تحتاج إلى منصة قريبة من أوروبا، محايدة سياسياً، منخفضة التكاليف، ويمكن أن تستوعب المنتجات الصينية قبل دخولها السوق الأوروبية. ومن هنا يبرز ما يسمّيه صفوان بن عيسى “الحلّ الأنيق”: تحويل تونس إلى مساحة مشتركة تجمع مزايا الطرفين دون أن تكون امتداداً لأيّ منهما.

تونس كجسر بين قارتين… وسوق ثالثة

ولعلّ ما يمنح تونس هذا الدور ليس فقط موقعها الجغرافي، بل قدرتها الفريدة على الجمع بين اتجاهين متناقضين ظاهرياً: فهي في نظر الأوروبيين بلد قريب، يمكن ضبط تشريعاته بسهولة، ويمكن مواءمة إنتاجه مع المعايير الصارمة لبروكسل. وفي نظر الصينيين، بلد اقتصادي منخفض التكلفة، يفتح لهم مصرفاً جديداً نحو إفريقيا بدعم موقعه ولغاته واستقراره النسبي. هكذا تتحوّل تونس إلى منطقة وصل تنظيمي ولوجستي، ليس بين القارتين فقط، بل بين قارتين وسوق إفريقية متعطّشة للتجهيزات والبنى التحتية.

مستقبل لوجستي وصناعي من نوع جديد

ووفق رؤية صفوان بن عيسى, يمكن أن يتجسد هذا الدور في وظائف عديدة: مصنع يعيد تجميع المكونات الصينية لتتلاءم مع التشريعات الأوروبية؛ مركز يصدر شهادات المطابقة؛ محطة عبور نحو إفريقيا؛ ومختبر صناعي تستطيع من خلاله تونس تطوير إنتاجها الخاص حتى يصبح جزءاً أساسياً من سلاسل القيمة العالمية. وما يجعل هذا السيناريو واقعياً وليس حلمًا، كما يذكّرنا، هو أنّ أوروبا اليوم تعترف بأنّ صناعاتها لن تتقدّم إلا إذا قامت على أسس جديدة بعيداً عن هشاشة الاعتماد على الصين.

أوروبا في مأزق.. الإرادة بلا أدوات

لقد ذكّرت The Economist بأنّ بروكسل تخوض معركة صعبة لتحديد مصيرها. فهي تتحدث كثيراً عن الابتكار وعن تفكيك التبعية، لكنها في الواقع عاجزة عن فرض سياسة صناعية موحدة على دولها. وفي الوقت الذي تغرق فيه أوروبا في النقاشات الداخلية، تتحرك الصين بثقة، وتبحث عن كيفيات جديدة للالتفاف على القيود الأوروبية، لا عبر المواجهة، بل عبر إيجاد “جسور” قانونية وجغرافية—وتونس واحدة من هذه الجسور المحتملة.

فوائد مباشرة لتونس في حال اقتناص الفرصة

وبينما تختلف دوافع الصين عن دوافع أوروبا، تبدو مصالح تونس في هذه المعادلة واضحة: ترفع من جودة صناعاتها بفضل الطلب الأوروبي على منتجات مسؤولة وقابلة للتتبع؛ تجذب مصانع تبحث عن مساحات مستقرة وقريبة من الموانئ الأوروبية؛ وتستعيد موقعها الطبيعي في شمال إفريقيا كمركز خدمات ولوجستيات وتجميع وتصدير.

تحذير صفوان بن عيسى: الفرصة لا تدوم

لكنّ صفوان بن عيسى يحذّر: الفرصة ليست أبدية. فالعالم يتحرّك بسرعة، ومن يتأخر يُدفَع إلى الهامش. إنّ على تونس أن تتصرف الآن، قبل أن تأخذ دول أخرى مكانها. ليست هذه رؤية مثالية ولا نزعة رومانسية إلى الحلم، بل قراءة موضوعية لواقع جيو–اقتصادي يعيد تشكيل نفسه، ويبحث عن نقاط ارتكاز جديدة على أطراف أوروبا.

من بلد ينتظر دوره… إلى بلد يعاد رسم الخرائط حوله

تونس قادرة على أن تكون إحدى هذه النقاط، بل ربما أهمّها. السؤال لم يعد إن كانت قادرة أو لا. السؤال هو: هل ستجرؤ على الدخول إلى اللعبة؟

وفي النهاية، كما يكتب الأستاذ صفوان بن عيسى، فإنّ ما يحدث اليوم ليس سوى بداية عصر جديد، تُقاس فيه قوة الدول لا بحجمها، بل بقدرتها على احتلال موقع مفصلي في سلاسل القيمة. وتونس، إذا أحسنت التموضع، يمكن أن تتحوّل من بلد يبحث عن مكانه… إلى بلد يعاد رسم الخرائط من حوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى