هل الـمستقبل الرقمي في مأمن؟ ميساء بن مراد تشرح كيف سيحدث “الـتشفير الكمومي” ثورة في عالم الأمن السيبراني

في زمن تتسارع فيه الابتكارات التقنية وتتطور فيه التهديدات السيبرانية، يبرز مجال ناشئ يعد بإحداث ثورة في حماية بياناتنا الحساسة: التشفير الكمومي. ميساء بن مراد، طالبة جامعية مهتمة بتقنيات الأمن السيبراني، خصّت جمهور إذاعة RTC بحوار علمي مبسّط وشامل حول هذا المجال الواعد. نستعرض في هذا المقال أبرز ما جاء في حديثها.
■ من أين نبدأ؟ التشفير التقليدي يواجه تهديداً وجودياً
أوضحت ميساء أن التشفير الكلاسيكي الذي نعتمد عليه اليوم في تأمين البيانات – مثل خوارزميات RSA وAES – يعتمد على مشاكل رياضية معقدة يصعب على الحواسيب التقليدية حلها. غير أن بروز الحواسيب الكمومية يغيّر قواعد اللعبة؛ هذه الآلات الفائقة قادرة على كسر تلك الخوارزميات في وقت وجيز بفضل قدراتها المبنية على مبادئ ميكانيكا الكم.
فمثلًا، يمكن لخوارزمية “شور” الكمومية أن تُحلّل أعدادًا ضخمة بسرعة عالية، مما يجعل من الممكن كسر تشفير RSA الذي كان يومًا ما حاجزًا منيعًا.
■ التشفير الكمومي: الحل الممكن
رغم هذه المخاطر، لا تزال هناك بارقة أمل، تقول ميساء: “الطريقة الوحيدة حالياً لضمان سرية مطلقة للمعلومات هي التشفير باستخدام قناع أحادي الاستخدام”، لكن هذا التشفير يتطلب مفتاحًا بنفس طول الرسالة، ما يحد من استخدامه.
الحل؟ التشفير الكمومي عبر ما يُعرف بـ”توزيع المفاتيح الكمومية” (QKD) المبني على خصائص الفوتونات (وهي جزيئات الضوء). هذه الطريقة تعتمد على الخصائص الفيزيائية الدقيقة للضوء لضمان أمان نقل المفاتيح السرية.
■ بروتوكولات رائدة: من BB84 إلى GG02
ذكرت ميساء بروتوكولين أساسيين في هذا المجال:
- BB84: أول بروتوكول كمومي طُوّر، يعتمد على استقطاب الفوتونات. وهو بروتوكول يمنع أي متجسس من اعتراض الرسائل دون أن يتم كشفه، بفضل مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ.
- GG02: طور لاحقًا في 2002، ويستخدم ما يسمى بـ”المتغيرات المستمرة”، وهي قياسات دقيقة لمجالات الضوء. هذه الطريقة أكثر مرونة وتُعدّ بديلًا واعدًا.
■ من المختبر إلى الواقع: من الصين إلى أوروبا والولايات المتحدة
تشير ميساء إلى أن عدة دول شرعت فعليًا في تطبيق هذه التقنيات:
- الصين أطلقت أول قمر صناعي كمومي، “ميسيوس”، لاختبار توزيع المفاتيح الكمومية عبر المسافات الطويلة.
- الاتحاد الأوروبي يدعم مشروع OpenQKD لتجربة الشبكات الكمومية في مؤسسات حساسة كالبنوك والمستشفيات.
- الولايات المتحدة، من خلال وكالة ناسا، تختبر هذه التكنولوجيا في مجال الاتصالات الفضائية.
■ ما بعد الكم: التشفير “ما بعد-الكمومي”
بحسب ميساء، التحول نحو تشفير ما بعد-كمومي هو الخطوة التالية. هذا النوع من التشفير لا يعتمد على قوانين الفيزياء، بل على مشاكل رياضية مقاومة للهجمات الكمومية، ويعمل على الحواسيب التقليدية، مما يسهل اعتماده تدريجيًا.
ويساهم المعهد الوطني للمعايير والتقنية (NIST) الأمريكي في تطوير معايير عالمية لهذا النوع من التشفير.
■ التحديات: بين التقنية والتطبيق
رغم الإمكانيات الهائلة، يواجه التشفير الكمومي عدة تحديات، منها:
- الحساسية البيئية: الفوتونات تتأثر بسرعة بالعوامل الخارجية، ما يصعّب الحفاظ على استقرار الإشارات لمسافات طويلة.
- هجمات القنوات الجانبية: رغم الأمان النظري، يمكن اختراق بعض التطبيقات العملية من خلال طرق مثل “الهجوم بالحصان الطروادي” الذي يستخدم الضوء المخترق لسرقة المعلومات.
- نقص المهارات والتنظيم: ما زال هناك نقص في الكفاءات المتخصصة، وغياب معايير متجانسة يعيق الانتشار الواسع لهذه التقنيات، خاصة في الدول النامية.
■ في الختام: هل نحن مستعدون؟
أكدت ميساء أن التحوّل نحو الأمن الكمومي لا بد منه، خاصة في ظل تسارع تطور الحوسبة الكمومية. غير أن تحقيق ذلك يتطلب استثمارات في البنية التحتية، وتكوين الخبرات، ووضع معايير واضحة تضمن تكافؤ الفرص بين الدول.
وقد أشارت ميساء إلى أن هذا الحوار هو انعكاس لمقال علمي قامت بنشره مع زملائها، تحت إشراف خبيرة معروفة في مجال التشفير، لتؤكد أن هذا الطرح العلمي الجاد لا يقتصر فقط على النظريات، بل يُمثل واقعًا قادمًا لا مفر منه.